السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بلغت الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني ذروة المجد، وبسطت سلطانها على معظم بلدان العالم الإسلامي، وبعض الدول الأوروبية، وارتقت فيها النظم الإدارية على نحو يثير الإعجاب والتقدير، وسنت القوانين التي تنظم الحياة بكل دقة وعدالة، ودون أن تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وازدهرت العمارة والبناء.
وكان وراء تلك النهضة الشاملة السلطان سليمان القانوني، وكان شاعرا له ذوق فني رفيع، ويجيد الخط، وعددا من اللغات الشرقية من بينها العربية، وكان له بصر بالأحجار الكريمة، كل ذلك إلى جانب قدرته الفائقة على قيادة الجيوش وإدارة الدولة، وممارسة الدبلوماسية بكل فنونها.
الانفتاح على الدولة الأوروبية
سليمان القانوني وفي حضرته أحد ملوك أوروبا
خطا السلطان سليمان القانوني خطوات واسعة في سياسة انفتاح الدولة في علاقاتها مع الدولة الأوروبية، وبخاصة فيما يتعلق بالنشاط التجاري، فعقد عدة معاهدات لتنظيم تلك العلاقات التجارية، وتدحض تلك المعاهدات ما يروجه بعض الباحثين من أن الدولة العثمانية فرضت عزلة على ولاياتها العربية عن أوروبا، وقد سبق أن أقدم السلطان سليم الأول في أثناء إقامته بمصر بعد الفتح العثماني لها سنة 923هـ=1517م على عقد معاهدة تجارية مع جمهورية البندقية، لزيادة النشاط التجاري لها في مصر.
معاهدات مشرفة
عقد السلطان سليمان القانوني معاهدة مع "فرنسوا الأول" ملك فرنسا سنة 934هـ=1528م حددت فيها الدولة العثمانية الامتيازات التي سبق أن منحها سلاطين دولة المماليك الشراكسة للفرنسيين، وكفلت المعاهدة الجديدة لتجار فرنسا ورعاياها الأمن والسلامة على أرواحهم وأموالهم ومتاجرهم، في المدة التي يمكثون فيها في أراضي الدولة العثمانية، وتعطي لهم الحق في التنقل بحرية برا وبحرا، وممارسة التجارة، دون أن يمسهم أحد بسوء، أو يتعرضوا لمضايقات من قبل السلطات العثمانية.
ونظمت المعاهدة إقامتهم وطريقة معيشتهم في أحياء أو خانات خاصة بهم، نصت على عدم المساس بكنائسهم أو فرض ضرائب عليها.
معاهدة جديدة بين الدولتين
وشجّع نجاح تطبيق هذه المعاهدة أن سارع ملك فرنسا فرنسوا الأول والسلطان سليمان القانوني على إبرام معاهدة جديدة، قوى من الإسراع في عقدها العلاقات الودية التي تربط بين العاهلين الكبيرين، وعقدت هذه المعاهدة سنة 941هـ=1535م وعرفت باسم معاهدة صداقة وتجارة بين الإمبراطورية العثمانية وفرنسا كانت أكثر شمولا من المعاهدة السابقة، وتقرر فيها منح فرنسا وسائر رعاياها الذين يذهبون إلى أقاليم الدولة العثمانية شتى الامتيازات في مقابل منح الرعايا العثمانيين امتيازات مماثلة لها تقريبا.
فرنسا تستعين بالدولة العثمانية
ونظرًا للعلاقات الحسنة التي كانت تربط السلطان سليمان القانوني بفرنسا، فإنه استجاب لطلب ملكها "فرنسوا الأول" مساعدات حربية، في أثناء الحرب التي اشتعلت بين فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة حول دوقية ميلان في شمالي إيطاليا، فأبحر "خير الدين برباروسا" من إسطنبول في المحرم 950هـ=مايو 1543م على رأس قوة بحرية كبيرة إلى جنوبي فرنسا، لمساعدتها في تخليص ميناء "نيس" من قبضة "شارل الخامس"، ونجح بمساعدة "بولان" القائد البحري الفرنسي في استعادة ميناء نيس في ربيع أول 950هـ=يوليو 1543م.
ميناء طولون الفرنسي قاعدة حربية للعثمانيين
وفي السادس عشر من جمادى الآخرة 950هـ=16 من سبتمبر 1543م عقدت معاهدة بين الدولة العثمانية وفرنسا، تركت فيها الأخيرة ميناء طولون الفرنسي برضاها لإدارة الأتراك، وهو من الأحداث الفريدة في التاريخ التي لا تقع إلا نادرا؛ إذ تحول طولون وهو الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية، التي كانت في حاجة ماسة إليه؛ إذ كان الأسطول العثماني يهاجم في غير هوادة الأهداف العسكرية الأسبانية التي كانت تهدد دول المغرب العربي والملاحة بالبحر المتوسط.
وفي الفترة التي ترك فيها ميناء طولون للدولة العثمانية أخلى الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأمر من الحكومة الفرنسية، وطلبت منهم أن يأخذوا معهم جميع أمتعتهم وأموالهم، وعدَّت رفض الهجرة من المدينة عصيانا للحكومة الفرنسية.
وتحول طولون إلى مدينة إسلامية عثمانية، رفع عليها العلم التركي، وارتفع الأذان في جنبات المدينة في أوقات الصلاة، وظل العثمانيون في المدينة ثمانية أشهر، شنَّوا في خلالها هجمات بحرية ناجحة على سواحل أسبانيا وإيطاليا.
وقد أدى هذا التحالف بين الدولة العثمانية وفرنسا إلى ازدياد السخط في أوروبا على "فرانسوا الأول" الذي دعم تحالفه مع العثمانيين، إلى الحد الذي جعله يسمح بتحويل ميناء طولون إلى قاعدة بحرية إسلامية تخدم الأسطول العثماني، وأطلق الرأي العام الأوروبي على هذا التعاون عبارة الاتحاد المدنس بين فرنسا والهلال.
معاهدة سنة 961هـ=1553م
وبعد موت ملك فرنسا فرانسوا الأول، انتهج ابنه هنري الثاني سياسته في دعم علاقته بالدولة العثمانية، وتوثيق الصداقة، والاستعانة بأسطولها البحري وقت الحاجة، فعقد معاهدة مع الدولة العثمانية في (16 من صفر 960هـ=1 من فبراير 1553م) بمقتضاها تساعد البحرية العثمانية فرنسا في فتح جزيرة كروسيكا، وأن يقدم لها ستين سفينة حربية مجهزة بالأفراد والعتاد، ونصت الاتفاقية على أن تكون الغنائم والأسرى من نصيب العثمانيين ولو كانوا من المسيحيين، كما حوت الاتفاقية على نصوص أخرى لتنظيم التعاون بين الدولتين في هذا المجال، ونجح الأسطول العثماني والفرنسي في فتح جزيرة كروسيكا بفضل هذا التحالف.
أثر هذه المعاهدات
ولما استشرى نفوذ الدولة الأوروبية وازداد تدخلها في شئون الدولة العثمانية في أثناء مرحلة ضعفها، اتخذت من المعاهدات التي أجرتها معها سندا لهذا التغلغل، والتدخل في سياسة الدولة أكثر مما مضت عليه تلك المعاهدات التي قامت على أساس تبادل الحقوق والواجبات بين الأوروبيين الموجودين في الدولة العثمانية والرعايا العثمانيين في الدول الأوروبية