نسيبة بنت كعب بن عمرو ، الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية.
كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين ، وكان أخوها عبد الرحمن من البكائين.
شهدت أم عمارة ليلة العقبة ، وشهدت أحداً ، والحديبية ، وحنين .
وكان ضمرة بن سعيد المازني يُحدث عن جَدته وكانت قد شهدت أحداً ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لمقام نَسِيبة بنت كعب اليوم خيرٌ من مُقام فلان وفُلان )).
وكانت تراها تقاتل أشد ما يكون القتال ، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها ، حتى جرحت ثلاثة عشر جُرحاً ، ( وكانت تقول ) : إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها ، فداوته سنة . ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى حمراء الأسد . فشدت عليها ثيابها ، فما استطاعت من نزف الدم ، رضي الله عنها ورحمها.
عن عُمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة : رأيتني ، وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا نُفير ما يُتمون عشرة ، و أنا و ابناي و زوجي بين يديه نذب عنه ، و الناس يمرون به منهزمين ، و رآني ولا ترس معي ، فرأى رجلاً مولياً ومعه ترس ، فقال : ألق تُرسك إلى من يقاتل ، فألقاه فأخذته . فجعلت أترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل ، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله ، فيُقبل رجل على فرسه فيضربني ، وترست له فلم يصنع شيئاً ، فأضرب عُرقوب فرسه فوقع على ظهره . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح : يا ابن أم عمارة ، أُمك ! أُمك! قالت : فعاونني عليه حتى أوردته شعوب .
وعن محمد بن يحي بن حبان ، قال : جُرحت أُم عمارة بأحد اثني عشر جُرحاً فقدمت المدينة وبها الجراحة ، فلقد رُئي أبو بكر رضي الله عنه، وهو خليفة ، يأتيها يسألُ عنها .
وابنها حبيب بن زيد بن عاصم، هو الذي قَطعه مُسيلمة.
وابنُها الآخر عبدُ الله بن زيد المازني ،الذي حكى وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قُتل يوم الحرة ،وهو الذي قتل مُسيلمة الكذاب بسيفه . شهد أُحداً.
في ليلة مقمرة.. لاح فيها البدر ينثر شعاعه على مهبط الوحي .. طرزت النجوم على سواده المخملي أبهى خيوطها.. كانت مكة تقف مختالة كعروس بهية الطلة سعيدة بأفئدة رانت إليها من سائر بلاد العرب يسابقهم الشوق للقاء البيت العتيق.. وأهل مكة يتحمسون على سائر الأعراب بشرف السقاية والسدانة.. يركلون بصلف وتعنت نوراً أطل من بين ظهرانيهم يريد أن يزيدهم سؤدداً على سؤدد ويضفي عليهم مزيداً من الشرف والمكانة لكنهم بالرغم من الجبروت الذي أظهرته خيلاؤهم ظلوا يتوجسون خيفة من هذا النور الذي بعثر أحلامهم وسفه أصنامهم.. وجعلهم ينامون وقلوبهم يقظة ترتعد من سماع اسم محمد على لسان أحد من أعراب الجزيرة.. لذا فقد سعوا عبر عيونهم إلى مراقبة تحركاته وتوجهاته خوفاً من أن تناصره إحدى قبائل العرب فتقوى دعوته وتشرق شمسه في فضاء الكون.
بيعة العقبة الثانية
لكن أقدار السماء شاءت لهذا الدين أن تنصره طيبة الطيبة.. حين أقبل أهلها من خلف الصخب الذي عاشته مكة في مواسم الحج للقاء النبي عليه السلام عند العقبة.
فلما قدم عليهم هبوا لمبايعته والوعد بنصرته وحمايته.. بقلوب تخفق لهذا الدين الجديد الذي استشعروا فيه الخلاص من براثن غدر يهود قابعين كالأشواك بينهم.. لا يألون جهداً في بث سمومهم ونفث أحقادهم بين أعراب طيبة من أوسها إلى خزرجها تاركين نار العصبية تنهش بين أبناء الحي العربي الواحد.
وكان من بين جموع الأوس والخزرج المناصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية وجه لامرأة تسمى نسيبة بنت كعب المازنية.. اخترقت الصفوف للقاء النبي القرشي صلى الله عليه وسلم.. معلنة بيعتها.. واعدة النبي صلى الله عليه وسلم بالحماية والنصرة.. لا يقل حماسها للدين الجديد عن الرجال لتصبح أول مناصرة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بين نساء يثرب.. فكان هذا الوعد من امرأة عربية أبية شرفاً يسجله التاريخ الإسلامي للمرأة عبر صفحاته المشرقة.
في طيبة الطيبة
بعد بيعة العقبة الثانية بدأت رحلة الهجرة لينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. لتبدأ مع تلك الخطوات أولى مراحل بناء الدولة الإسلامية في شموخ يمتطي به الحق عنان السماء مرفرفاً برايات التوحيد.. تتألف بها أفئدة تاقت لنصرة الإسلام.. فكان النصر في بدر الكبرى على أوتاد الكفر.. ورماح الإسلام تئد بحوافر النصر سادات قريش في قليب بدر.. لترحل العنجهية الظالمة إلى الدركات السفلى في جهنم.. لكن قريش لم تسكت على قتل صناديدها دون أن تشغل فتيل قتال جديد ضد محمد وصحبه فكانت معركة الثأر في أحد.
يوم التمحيص والابتلاء
حينها .. جهز صلى الله عليه وسلم جيشاً دعمه بخمسين من الرماة لحماية ظهور المسلمين.. فلما احتدمت الصفوف اندفع المسلمون يحملون سيوف الحق في وجه قوى الباطل من قريش فتقهقر فرسانها يجرون أذيالها هزيمة متوقعة.. الأمر الذي دفع بالرماة وقد لاحت تباشير النصر إلى النزول من أعلى الجبل بعيون تتجه نحو أرض قريبة خلت من كل حوافر الخيل وأقدام الشجعان.. ولم يبق فيها إلا السيوف وبقايا الدروع وأرتال القتلى من المشركين.. في هذه الأثناء كانت عينا خالد بن الوليد تراقبان هذا الموقف بنظرة عسكرية صائبة.. فقرر أن يحتل الجبل الذي خلا من معظم رماته.. ليقلب بعقليته العسكرية موازين المعركة من هزيمة محققة إلى انتصار يسجل لخالد بن الوليد لا لمشركي مكة.. فتعثرت خطوات المسلمين وتحول التقهقر إلى اندفاع ، والهجوم إلى تراجع.. والنبي عليه السلام وسط غبار الخيل ينادي المسلمين ليصمدوا في هذا الامتحان الصعب يقاتل قتال الأبطال وخيل المشركين تبحث عنه يسابقها كابوسها الأسود لقتله والتخلص من هذا الدين الجديد.
المرأة المحاربة
كانت النساء المسلمات يراقبن المعركة.. تعلو وجوههن ابتسامة فرح بتباشير النصر التي انبثقت كفلق الصبح.. وهن يسعفن المصابين ويعالجن الجرحى ويسقين العطشى.. حتى إذا ما طغى غبار الهزيمة وأعتم الفجر من جلل الضباب.. ورأت النساء تراجع المسلمين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستصرخ الهمم للثبات والصمود.. عند هذا الخطب الجلل هبت أم عمارة الطبيبة المداوية لتتحول في ثوان معدودة إلى جلمودة صخر تدافع عن النبي الكريم.. تتلقى عنه الطعنات وتجعل من نحرها درعاً تتكسر عليه السيوف..
لندع أم عمارة تخبرنا عن هذا الموقف الجلل : (خرجت أول النهار وأنا أنظر الناس ما تصنع.. ومعي سقاء فيه ماء.. فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين.. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي بالقوس.. حتى خلصت الجراح إليّ.. فلما تولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ابن قمئة وهو يقول : دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا.. فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فضربني ضربة غائرة لا تزال آثارها في عاتقي.. ولكنني ضربته والله على ذلك ضربات لكن عدو الله كانت عليه درعان).
هكذا تصدت أم عمارة لعدو الله تأخذ الطعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليترك الطعن جرحاً غائراً تظل آثاره شاهدة على قلب امرأة شجاعة لا تعبأ بالجراح بل تستمر في الذود عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى تسقط فاقدة الوعي وسط بحر من الدماء والأوجاع مما لا يقوى عليه عتاة الرجال.
مع كل هذا أفاقت أم عمارة لا تهتم لجرحها بقدر خوفها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون قد أصابه أذى.. لا تبالي بوهن الجسد ، والروح تخفق في حب نبي الله.